فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}.
لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولًا إلا أوحى إليه أن الله تعالى فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام. وقرأ حمزة والكسائي: {نوحي} بنون مضمومة، وقرأ الباقون {يوحى} بياء مضمومة. واختلف عن عاصم ثم عدد بعد ذلك نوعًا آخر من كفرهم وذلك أنهم مع اتخاذهم آلهة كانوا يقربون بالله تعالى هو الخالق الرازق إلا أنهم قال بعضهم اتخذ الملائكة بنات، وقال نحو هذه المقالة النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام، واليهود في عزيز، فجاءت هذه الآية رادة على جميعهم منبهة عليهم، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالة الكفرة وأضرب عن مقالهم ونص ما هو الأمر في نفسه بقوله: {بل عباد مكرمون} وهذه عبارة تشمل الملائكة وعزيزًا وعيسى. وقوله تعالى: {لا يسبقونه بالقول} عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال الأمر، وقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي ما تقدم من أفعالهم وأعمالهم، والحوادث التي لها إليهم تنسب وما تأخر، ثم أخبر تعالى أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له، قال بعض المفسرين لأهل لا إله إلا الله، والمشفق البالغ في الخوف المحترق من الفزع على أمر ما. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {مِنْ رسولٍ إِلا نوحِى}.
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {إِلا نوحي} بالنون؛ والباقون بالياء.
قوله تعالى: {وقالوا اتَّخَذ الرحمن ولدًا} في القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنهم مشركو قريش، قاله ابن عباس.
وقال ابن إِسحاق: القائل لهذا النضر بن الحارث.
والثاني: أنهم اليهود، قالوا: إِن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة، قاله قتادة.
فعلى القولين، المراد بالولد: الملائكة، وكذلك المراد بقوله: {بل عباد مُكْرَمون}، والمعنى: بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم، {لا يسبقونه بالقول}، أي: لا يتكلَّمون إِلا بما يأمرهم به.
وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ثم يقولون عنه، ولا يعملون حتى يأمرهم.
قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم} أي: ما قدَّموا من الأعمال {وما خَلْفَهم} ما هم عاملون، {ولا يشفعون} يوم القيامة، وقيل: لا يستغفرون في الدنيا {إِلا لِمَن ارتضى} أي: لِمَن رضي عنه، {وهم مِنْ خشيته} أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إِلى المفعول، {مُشْفِقون} أي: خائفون.
وقال الحسن: يرتعدون. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ}.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نُوحِي إِلَيْهِ} بالنون؛ لقوله؛ {أَرْسلْنَا}.
{أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} أي قلنا للجميع لا إله إلا الله؛ فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول.
وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا سُبْحَانَهُ} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعًا في شفاعتهم لهم.
وروى معمر عن قتادة قال: قالت اليهود قال معمر في روايته أو طوائف من الناس: خَاتَن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: {سبحانه} تنزيهًا له.
{بَلْ عِبَادٌ} أي بل هم عباد {مُّكْرَمُونَ} أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار.
ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادًا مكرمين.
وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدًا، بل اتخذناهم عبادًا مكرمين.
والولد هاهنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدًا.
ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان مال.
{لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي بطاعته وأوامره.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون؛ قاله ابن عباس.
وعنه أيضًا: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وما خَلْفَهُمْ} الدنيا؛ ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري.
{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدًا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضًا؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي.
{وَهُمْ} يعني الملائكة {مِّنْ خَشْيَتِهِ} يعني من خوفه {مُشْفِقُونَ} أي خائفون لا يأمنون مكره. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل {من رسول} إلاّ جاء مقررًا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة.
ولما كان {من رسول} عامًا لفظًا ومعنى، أفرد على اللفظ في قوله إلاّ يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله: {فاعبدون} ولم يأت التركيب فاعبدني، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوّات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام.
وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير {نوحي} بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد.
قيل: ونزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال: {بل عباد مكرمون} ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيرًا والمسيح، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم {عباد} والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم {مكرمون} مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرَّ منهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علوًا كبيرًا انتهى.
وقرأ عكرمة {مكرمون} بالتشديد والجمهور بالتخفيف، وقرأ {لا يسبِقونه} بكسر الباء.
وقرىء بضمها من سابقني فسبقته أسبقه، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئًا حتى يقوله: فلا يسبق قولهم قوله.
وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري: والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين.
{وهم بأمره يعملون} فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عملًا ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه {يعلم ما بين أيديهم} أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالمًا بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعيًا لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة.
قال ابن عباس: {يعلم} ما قدموا وما أخروا من أعمالهم.
وقال نحوه عمار بن ياسر، قال: ما عملوا وما لم يعملوا بعد، وقيل {ما بين أيديهم} الآخرة {وما خلفهم} الدنيا.
وقيل عكس ذلك.
وقيل {يعلم} ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم.
ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلاّ لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم، ثم {هم} مع ذلك {من خشيته مشفقون} متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله.
وقال ابن عباس: {لمن ارتضى} هو من قال: لا إله إلا الله وشفاعتهم: الاستغفار.
وقال مجاهد: لمن ارتضاه الله أن يشفع.
وقيل: شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}.
استئنافٌ مقررٌ لما أُجمل فيما قبله من كون التوحيد مما نطَقت به الكتبُ الإلهية وأجمعت عليه الرسلُ عليهم الصلاة والسلام، وقرئ: {يوحى} على صيغة الغائب مبنيًا للمفعول وأيًا ما كان فصيغةُ المضارع لحكاية الحالِ الماضية استحضارًا لصورة الوحي.
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} حكايةٌ لجناية فريق من المشركين جيء بها لإظهار بُطلانِها وبيانِ تنزّهه تعالى عن ذلك إثرَ بيان تنزّهِه سبحانه عن الشركاء على الإطلاق وهم حيٌّ من خُزاعَةَ يقولون: الملائكةُ بناتُ الله تعالى، ونقل الواحدي أن قريشًا وبعضَ أجناسِ العرب جهينةَ وبني مُلَيح يقولون ذلك. والتعرضُ لعنوان الرحمانية المنبئةِ عن كون جميع ما سواه تعالى مربوبًا له تعالى نعمةً أو مُنعَمًا عليه لإبراز كمالِ شناعةِ مقالتِهم الباطلةِ {سبحانه} أي تنزّه بالذات تنزّهَه اللائقَ به على أن السُّبحانَ مصدرٌ من سبح أي بَعُد أو أسبّحه تسبيحَه على أنه علمٌ للتسبيح وهو مقولٌ على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحَه وقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ} إضرابٌ وإبطالٌ لما قالوه، كأنه قيل: ليست الملائكةُ كما قالوا بل هم عبادٌ له تعالى {مُّكْرَمُونَ} مقربون عنده، وقرىء مكرّمون بالتشديد تنبيهٌ على منشأ غلطِ القوم.
وقوله تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} صفةٌ أخرى لعباد منبئةٌ عن كمال طاعتهم وانقيادِهم لأمره تعالى، أي لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وأصلُه لا يسبق قولهم قوله تعالى، فأسند السبقُ إليه منسوبًا إليه تعالى تنزيلًا لسبق قولهم قوله تعالى منزلةَ سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبقِ المعرَّضِ به للذين يقولون ما لا يقوله الله تعالى، وجعلُ القول محلًا للسبق وأداةً له ثم أنيب اللامُ عن الإضافة للاختصار والتجافي عن التكرار، وقرىء لا يسبقونه بضم الباء من سابقته فسبقته أسبُقه وفيه مزيدُ استهجانٍ للسبق وإشعارٌ بأن من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدّى لمغالبته تعالى في السبق فسبقه فغلبه والعياذ بالله تعالى، وزيادةُ تنزيهٍ لهم عما نُفيَ عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلَبة بعد المغالبة، فأنى يُتوهم صدورُه عنهم {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} بيانٌ لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثرَ بيانِ تبعيتهم له تعالى في الأقوال، فإن نفيَ سبقِهم له تعالى بالقول عبارةٌ عن تبعيّتهم له تعالى فيه، كأنه قيل: هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره أصلًا، فالقصرُ المستفادُ من تقديم الجار معتبرٌ بالنسبة إلى غير أمرِه لا إلى أمر غيرِه.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} استئنافٌ وقع تعليلًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده فإنهم لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدموا وأخروا من الأقوال والأعمال لا يزالون يراقبون أحوالَهم فلا يُقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أن يشفعَ له مهابةً منه تعالى {وَهُمْ} مع ذلك {مّنْ خَشْيَتِهِ} عز وجل {مُشْفِقُونَ} مرتعدون، وأصلُ الخشية الخوفُ مع التعظيم ولذلك خص بها العلماءُ، والإشفاق الخوفُ مع الاعتناء فعند تعديتِه بمن يكون معنى الخوف فيه أظهرَ وعند تعديته بعلى ينعكس الأمر. اهـ.